دراسات
إسلاميــــــــــة
لمحات من سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم العطرة
(4/6)
بقلم : د. نزار بن عبد
الكريم بن سلطان الحمداني
8 – جويرية بنت الحارث بن
أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، ابنة سيد قومها، كان اسمها برّة، فغيره رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بعد زواجه منها،
كراهة أن يقال: خرج من عند برّة.
كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسافع بن صفوان، قتل يوم المريسيع –
غزوة بني المصطلق – سنة ست، وسبيت هي فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شمّاس؛ فكاتبها على
تسع أواق، فأدّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- عنها كتابتها وتزوّجها، فبلغ الناسَ أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يسترقّون! فأعتقوا ما بأيديهم من
بني المصطلق، قالت عائشة: فلا أعلم امرأةً أعظم منها على قومها بركةً.
ماتت في ربيع الأول سنة خمسين، وقد بلغت
سبعين سنة وصلى عليها أمير المدينة: مروان بن الحكم(1).
9 – أم حبيبة، رملة بنت
أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة، القرشية العدويّة، أخت معاوية، وأمّها صفية بنت
أبي العاص، عمّة عثمان بن عفّان، كانت من فصيحات قريش، ومن ذوات الرأي والحصافة.
كانت قبل رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عند عُبيد الله بن جحش؛ وولدت له
حبيبة، وبها كانت تكنى، وهاجر بها إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم تنصّر هناك،
ومات عنها على النصرانية.
قالت أم حبيبة - رضي الله عنها – : رأيت في النوم كأنَّ
زوجي عُبيد الله بن جحش بأسوء صورة، فأصبحت فإذا به قد تنصّر؛ فأخبرته بالمنام،
فلم يحفل، وأكبَّ على الخمر حتى مات، فأتاني آت في النوم فقال: يا أُمَّ المؤمنين؛
ففزعت، فأوّلتها أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتزوجني؛ فما هو إلا أن قد انقضت عدّتي فما
شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية يقال لها: أبرهة، فدخلت عليَّ
فقالت: إنَّ الملك يقول لك: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليَّ أن أُزوّجه. فقالت: بشَّرك الله
بخير. قالت: يقول لك الملك: وكِّلي مَنْ يُزَوّجك.
فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص –
رضي الله عنه – وهو ابن عم أبيها، فوكّلته.. فزوّجها النجاشي رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأصدقها أربعمائة دينار،
وجهّزها من عنده، وبعثها مع شرحبيل بن حسنة، فقدم بها على رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وكان ذلك سنة سبع.
ومن مواقفها الإيمانية العظيمة أنها طوت فراش
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل
أبوها – وهو مشرك – عليها في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب ليجلس، فقال: يا بنية أرَغبت بهذا
الفراش عني، أم بي عنه. فقالت: بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤٌ نجس مشرك.
توفيت – رضي الله عنها –
سنة أربع وأربعين قبل موت معاوية – رضي الله عنه – بسنة(2).
10 – صفية بنت حُييّ بن
أخطب، وكان أبوها سيّد بني النضير وهو من ذرية نبي الله ورسوله هارون بن عمران أخي
موسى – عليهما الصلاة والسلام – وقُتل أبوها مع بني
قريظة.
كانت عند سلاّم بن مشكم القرظي، ثم فارقها
فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري، ولم تلد لأحد منهما شيئًا(3).
وقُتل كنانة يوم خيبر، وسبيت صفية فصارت من نصيب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - .
قالت صفية: أتيتُ إلى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وما أحدٌ من الناس أكره إليَّ
منه(4)، فقال: (إن قومك صنعوا كذا وكذا) قالت: فما قمت من مقعدي، وما
من الناس أحد أحبُّ إليَّ منه. وفي رواية عنها: قالت: ما رأيت قطُّ أحسن خُلُقًا
من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..
قال: (أما إني أعتذر إليك يا صفية بما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا، وكذا)(5).
وعن صفية – رضي الله عنها –
قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- وأنا أبكي، فقال: (يا ابنة حُييٍّ، ما يبكيك؟).
قالت: بلغني أنَّ حفصة وعائشة ينالان مني،
ويقولان: نحن خير منها، نحن بنات عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه.
قال: ألا قلت لهنّ: كيف تكُنّ خيرًا مني، وأبي
هارون، وعمّي موسى، وزوجي محمد(6) – صلى الله عليه وعليهما وسلم – .
قال الحافظ: ولد صفية بنت حييٍّ مائة نبيّ،
ومائة ملك، ثم سيّرها الله – تعالى – أمةً لنبيه - صلى الله عليه وسلم
-(7).
ماتت صفية – رضي الله عنها –
في رمضان من سنة خمسين، ودفنت بالبقيع، وورّثت مائة ألف درهم، وأوصت بالثلث لابن
أختها وكان يهوديًا(8).
11 – ميمونة بنت الحارث بن
حَزَن الهلالية(9).
لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، توجّه إلى مكة معتمرًا –
سنة سبع – ، وقدم عليه جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فخطب عليه ميمونة بن الحارث،
وكانت أختُها لأمّها – أسماء بنت عميس – عند جعفر، فأجابت جعفرًا إلى تزويج رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، وجعل أمرها إلى العباس بن عبد
المطلب فأنكحها العباس النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم في عمرة القضية –
سنة ثمان – فلما رجع بنى بها بسَرِف(10). قال ابن المسيب: قدم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم،
فلما حلّ تزوجها(11) وكانت قبله عند أبي رهم بن عبد العُزّى القرشي(12).
قال ابن سعد: هي آخر امرأة تزوّجها رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، يعني ممن دخل بها(13).
ماتت – رضي الله عنها – بسَرِف،
سنة إحدى وستين.
قال أنس – رضي الله عنه –
: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ميمونة بسرف، وبنى بها بسرف، وماتت بسرف(13).
قلت: وقبرها معروف، في طريق القادم إلى مكة
من المدينة من جهة التنعيم.
وهكذا تزوج رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - هؤلاء النساء لمطالب عالية ومقاصد
عظيمة، فشاركنه حياته الشريفة، فكنّ مثالاً حيًّا يقتدى به للمرأة الصالحة للرجل
الصالح، فصلى الله وسلم وبارك على زوجهن رسول الله، ورضي الله –
تعالى – عنهُنّ.
جهاده - صلى اللّه عليه
وسلم - :
وهو - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب حياته الإنسانية الخاصة، والتي تصب
في مصلحة الإسلام والمسلمين العامة؛ فإن قضيته الأهم، وشغله الشاغل هو نصرة دين
الله وتثبيته في الأرض وإزاحة كل العوائق والعقبات من طريق مسيرته، فخاض - صلى
الله عليه وسلم - بأصحابه البررة غمار
حروب ومواجهات مع أعداء الله، كان من أهمها وأعظمها شأنًا غزوة بدر الكبرى التي
هزم الله بها أعداءه، ونصر نبيه وعباده المؤمنين، على ما كان من قلة عَدَد وعُدد
المسلمين(14)، فصار المسلمون بعد نصرهم المبين قوة مهابة الجانب يحسب
لها حسابها، ولقد امتن الله على نبيه وعباده المؤمنين بهذا النصر(15) فقال:
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا
اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران).
ثم إن اليهود كانوا – بطبيعتهم –
يشكلون خطرًا عظيمًا على الدعوة الإسلامية ودولتها الفتية، ما فتئوا يحيكون
المؤامرات ضدها، ويتربصون بالمسلمين الدوائر ويقلقون – بتصرفاتهم الحاقدة –
أمن واستقرار المجتمع الجديد الذي يرنوا إلى الخير والسعادة والحياة الآمنة
المستقرة، فواجههم النبي - صلى الله عليه وسلم
- بجرائمهم وعدوانهم ونقضهم للعهد الذي أبرموه مع النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فقتل مقاتلة بني قريظة، وسبا
ذراريهم(16) وأجلا بني النضير إلى الشام(17).
وأما يهود خيبر(18) فهم الذين حرّضوا بني
قريظة على الغدر والخيانة، وهم الذين أخذوا بالاتصال بالمنافقين الذين وضعوا خطةً
لاغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم -،
إلى غير ذلك من صنوف الخبث والمكر والتآمر مما شكل عقبة في وجه استقرار المسلمين
وعائقًا خطيرًا في طريق الدعوة إلى الله وإقامة دولة الإسلام، فكان لابد من
إيقافهم ومنع شرهم وإنزال العقوبة المناسبة بهم.
لذا فقد خرج إليهم النبي - صلى الله عليه
وسلم - في محرم من السنة السابعة من
الهجرة، فلما دنا من خيبر وأشرف عليها، وقف وقال: (اللّٰهم ربَّ السموات
السبع وما أظللن، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن، وربَّ الشياطين وما أضللن، وربَّ
الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذبك
من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا بسم الله)(19).
ولما كانت ليلة الدخول قال –
عليه الصلاة والسلام – (لأُعطيَنَّ هذه الراية – غدًا –
رجلاً يفتح الله على يديه، يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله)، فبات الناس
يدوكون(20) ليلتهم: أيهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال:
أين عليُّ بن أبي طالب؟ فقيل: هو –يارسول الله – يشتكي عينيه.
فأرسلوا إليه فأتيَ به فبصق رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في عينيه، ودعا له فبريء
حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يارسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا
مثلنا؟
قال: انفذ على رِسْلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم
ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله
بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم(21).
وهكذا حاصرت جحافل أهل الحق حصون وقلاع يهود
خيبر فتهاوت الواحدة تلو الأخرى، وكانوا يظنون ﴿..أَنَّهُم مَّا نِعَتُهُمْ
حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمـُؤْمِنِيْنَ..﴾ (الحشر:2).
ولم ينجهم إلا مصالحتهم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - على حقن دماء مَنْ في حصونهم
من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويُخَلّون بين
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما
كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء، والكراع والحلقة، إلا ثوبًا على ظهر
إنسان.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني
شيئًا.
فصالحوه على ذلك، وبعد هذه المصالحة تمَّ
تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تمَّ فتح خيبر(22)؛ وكفى الله –
بمنِّه وكرمه – المؤمنين شرَّ اليهود ومكرهم.
وسُبيَت صفية بنت حُييّ بن أخطب سيدة قريظة
وبني النضير، فصارت إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فعرض - صلى الله عليه
وسلم - عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها
وجعل عتقها صداقها(23) وتزوجها وأولَمَ عليها بحيس من التمر والسَّمن
والسّويق(24)، ففازت صفية – بهذا النكاح الميمون –
بشرف لقب أمّ المؤمنين.
* * *
الهوامش:
(1)
انظر
سبل الهدى: 11/145و 210و 211؛ والأعلام للزركلي: 2/146؛ وانظر فقه السيرة للغزالي:
455.
(2)
انظر
سبل الهدى: 11/193-197؛ طبقات ابن سعد: 8/96-100؛ والأعلام: 3/60-61.
(3)
سبل
الهدى: 11/212؛ طبقات ابن سعد: 8/120؛ فتح الباري: 7/469.
(4)
وفي
رواية: قتل أبي وزوجي، فمازال يعتذر إليَّ، وقال: يا صفية إن أباك ألّب عليَّ
العرب، وفعل، وفعل، حتى ذهب ذلك من نفسي. «جمع الزوائد: 9/251؛ وقال: رواه
الطبراني ورجاله رجال الصحيح».
(5)
سبل
الهدى: 11/215، وانظر مجمع الزوائد 9/251.
(6)
سبل
الهدى: 11/215؛ وانظر الطبقات: 8/127.
(7)
سبل
الهدى: 11/212.
(8)
نفس
المصدر: 11/217.
(9)
وهي
خالة عبد الله بن عباس، أخت أمه «لبابة الكبرى» زوج العباس بن عبد المطلب؛ وهي أخت
اسماء بنت عميس لأمها.
(10)
سَرِف:
بالفتح، ثم الكسر، وآخره فاء: موضع على عشرة أميال من مكة، من طريق مرو .. «انظر
مراصد الاطلاع: 2/708». قلت: الميل يساوي: (1848) متر بالقياس الحديث؛ فعلى هذا
فإن سرفَ تبعد عن مكة (18480) متر، في طريق الذاهب إلى المدينة من جهة التنعيم.
(11)
طبقات
ابن سعد: 8/135.
(12)
سبل
الهدى: 11/208. طبقات ابن سعد: 8/132.
(13)
نفس
المصدر: 11/209؛ 8/132، 140.
(14)
كان
عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيرًا، يعتقب
الرجلان والثلاثة على بعير واحد. بينما كان قوام جيش المشركين نحو ألف وثلاثمائة
مقاتل في بداية سيره من مكة قاصدًا المدينة، وكان معه مائة فرس، وستمائة درع،
وجمال كثيرة لايعرف عددها بالضبط. «انظر الرحيق المختوم: 226-228».
(15)
وكان
اللقاء بين الفريقين يوم الجمعة، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة،
«الرحيق:236».
(16)
انظر
سيرة ابن هشام: 2/233-273.
(17)
المرجع
السابق: 2/190-195.
(18)
«خيبر» على ثمانية بُرُد من المدينة من جهة الشام «والبريد أربعة
فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل يساوي 1848متر، فخيبر تبعد عن المدينة 177408
متر، والمسافة الآن بين المدينة وخيبر 172 كيلومتر»، وكان بها سبعة حصون لليهود،
وحولها مزارع ونخل، وهي: ناعم، والقموص، والشق، والنطاة، والسلالم، والوطيح،
والكتيبة، والخيبر بلسان اليهود: الحصن. «مراصد الاطلاع: 1/494».
(19)
الرحيق
المختوم: 412. والدعاء أخرجه الحاكم عن صهيب: 1/614.
(20)
أي
باتوا في اختلاف واختلاط؛ والدوكة الاختلاط. «الفتح».
(21)
صحيح
البخاري «الفتح»: 7/476؛ 6/144 باب فضل من أسلم على يديه رجل –
كتاب الجهاد – .
(22)
الرحيق
المختوم: 418.
(23)
انظر
البخاري «الفتح»: 7/469، باب غزوة خيبر –
كتاب المغازي.
(24)
انظر
المرجع نفسه: 7/479؛ 9/224، باب البناء في السفر –
كتاب النكاح – .
مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن
دارالعلوم ديوبند ، شعبان 1432هـ = يوليو
2011م ، العدد : 8 ، السنة : 35